نحن لسنا أرقاماً: صوت امرأة من قلب غزة

 "احنا في غزّة مش أرقام، مش أبطال خارقين، ومش أدوات لتحقيق أجندات وسياسات عالميّة، شوفوا غزّة من منظور الإنسان. من حلم بنت بدها تصير معلمة، من بيت صغير فيه ضحك وألوان وذكريات، من مدرسة مليانة أصوات طلاب وحياة."

تُخاطب هديل أبو زيد -29 عامًا- العالمَ بهذه الكلمَات، هديل التي قاسَت -كغيرها من الغزّيين- الأمرّين منذُ السّابع من أكتوبر 2023 إلى يومنا هذا، فعاشتِ الخوفَ والألمَ والفُقدان وذل الحاجةِ والحُرمان ونزحت من بيتها أكثر من خمس مرات، ومع ذلك تصدّرت مَشهد العاملين/ات على تلبية احتياجات النّاس في قطاع غزّة.


قبل أن تغفُو في كابوسِ الإبادة، عملت هديل كمديرة مشروع في مؤسسةٍ أهليةٍ في قطاع غزّة تُعنى بتمكين الشّباب وتعزيز أدوارهم في إحداث التغيير المجتمعيّ، والمشاركةِ في صنع القرار. ساهمت هديل في إعداد وتنفيذ العديد من التدريبات، والمبادرات المجتمعيّة، وحملات الضغط والمناصرة، والمنصّات الشّبابية، وقد كان دافعها في ذلك هو إيمانٌ عميقٌ في قوّة الشّباب، ورغبةٌ جارفة في أن تكون جهودها مرآةً يرى فيها الشباب الغزيّ إمكانياتهم وطاقاتهم، ويستثمرونها لصنع مستقبلٍ أفضل في قطاع غزّة.


هديل، رأت بعينِ الشّباب التحديات التي واجهوها من بطالةٍ، وفقرٍ، وانسدادِ أفق، وقلةِ فرصٍ، وضغوطٍ نفسيّة، ومع ذلك، كان قلبها شابًّا أيضًا فرأت القوة والعزيمة فيهم، وآمنت بقدرتهم على مواجهة التحديات وتذليل الطّريق الزّاخرِ بالعقبات بأنفسهم، وكانت تطمح لمُستقبل شبابيّ مُزدهرٍ في قطاع غزّة، ولكنّ الإبادة قالت كلمتها - أو بالأحرى سَلبت ما كانَ وما سيكون!



"صار الواقع أصعب من أي رؤية مستقبليّة، وصارت الأولوية هي الاستجابة الفورية للحالة الإنسانية المؤلمة اللي بنعيشها، تحول دوري من مديرة مشروع بتركز على التمكين لإنسانٍ على الأرض بتحاول تقدم أي شكل من أشكال الدعم للناس اللي فقدوا كل شيء."

مع تغيّر ديناميكيات الواقع، أصبحت جهود هديل في الميدان منصبةً على إعداد وتنفيذ مبادرات إغاثية تستهدف تلبية احتياجات الشباب والسيدات والفتيات لأماكن آمنة، لدعمٍ نفسيٍّ اجتماعيّ، أو طرودٍ إغاثية. وقد كان هذا التّغير ثقيلًا على نفسها، فالحقيقة أنّ مَن يقدم المُساعدة للناس في قطاع غزّة محتاج، وأنّ مَن يشهد على أوجاع النّاس موجوع، وأنّ من يحاول طمأنة النّاس مَرعوب! ومع ذلك، لم تتوانَ هديل للحظةٍ عن التواجد في الصفوف الأماميّة، وقد عرفت أنّه وبالرغم من الاحتياج الهائل في قطاع غزّة، فإنّ يدها المِعطاءة ستُحدِث فرقًا مهما بدا صغيرًا!

"بهاي الأيام، صرنا نعرف قيمة كل شيء، وكل فعل صادق بيصير كبير، لأنه بيجي وسط قهر كبير. أنا بشوف الفرق في عيون الناس، في شكر بسيط، في دمعة ارتاحت، في نظرة فيها أمل ولو صغير."


وعلى الرغم ممّا تمرّ به هديل من معاناةٍ فرديّة، فإنّ قلبها آثرَ الصمود وسط الجموع المُحتاجة، وقد شاركتنا قصةً -من كثيرِ قصصٍ- ألهمتها للبقاء في الميدان يومًا بعد يوم. ففي ليلةٍ شديدةِ البردِ كثيرةِ المطر، والموتُ يتربصُ في الأرجاء، جاءها اتصالٌ من سيدةٍ تنتحبُ وتشكو إليها أنّ الريحَ قد انتزعت خيمتهم، وأنّها وأولادها في الشارع بلا مأوى. لم يغب عن هديل الارتجاف في صوتِ تلك المرأة، وأحسّت بالبرد يقرصُ جسدها كما لو كانت مكانها، فسارعت لطمأنتِها ومساندتها ونتيجةً لجهودها، استطاعت المرأة أن تستلم خيمةً جديدةً ليأتي الاتصال اللاحق يحمل رسالةً حُفرت عميقةً في ذهن هديل: "أول مرة بحس إنه عندي أخت"، ومع هذه الرسالة علمت هديل أنّها لا تحتاج أن تكونَ بطلةً لتنقذَ النّاس، أحيانًا كل ما عليكَ فعله أن تكونَ إنسانًا - أن تشعرَ بالآخر، أن تواسيه بالكلمة، وأن تساعده في قضاءِ حاجته ما استطعتَ لذلك سبيلًا.



كامرأة، تقفُ هديل ضمن الصفوف الأمامية للعمل الإنسانيّ في قطاع غزّة المنكوب، تحملُ في قلبها ثقل الإبادة، وتحملُ على أكتافها مسؤوليةً تجاه مجتمعها، وأخرى تجاه بيتها وشريك حياتها وعائلتها. لم يكن من السّهل عليها أن تكونَ كلّ شيء في ظروفٍ تقهرُ الجبال، ولكنها حاولت، ومع محاولاتها، كان زوجها داعمًا يتفهمُ طبيعة عملها ويتواجد عاطفيًّا إلى جانبها ويضعُ يده بيدها لإنجاز المهام المنزليّة المتضاعفة في ظل الظروف الصّعبة.


"كوني امرأة مش ضعف، هو تحدي، وأحيانًا هو وسيلة نوصل فيها لأماكن محدش غيرنا بيقدر يدخلها، ونفهم أصوات محدش غيرنا بيقدر يسمعها"

هكذا لخّصت هديل شعورها حيال التحديات التي تواجهها كامرأةٍ تتواجد في قلب العمل الإنسانيّ، فعدا عن شعورها بانعدام الأمان والذّي يملأ رأسها بأسئلة تبقى بلا إجابات إذا كانت ستعود لأهلها سالمةً أو يبقى أهلها بخير إلى حين عودتها، وعدا عن أنّ رحلة ذهابها وإيابها إلى العمل كانت تجبرها على ركوب عربات يجرها حيوان، وشاحنات مكشوفة، وسيارات مهترئة - كلها وسائل نقل ينعدمُ فيها الأمان وتُنحّى فيها الكرامة، فقد كانت هديل تواجه أيضًا نظرات التشكيك، والاستغراب، والتذمّر من تواجد امرأة في الأماكن المنكوبة. ولكنها في مقابل ذلك، استطاعت كامرأة أن تكونَ أقربَ إلى النساء والفتيات، وتسمع أصواتهنّ الخائفة والخافتة لتصبحَ بدورها صوتهنَّ الواثقَ المُستندَ إلى حقٍّ، وتوائم المساعدات لتلبي احتياجاتهنّ الخاصة.


"وجهة نظري كامرأة ما كانت بس تأثير ناعم في المشهد، كانت حقيقية لفهم أعمق وخاصةً في تعاملنا مع النساء والفتيات… كوني امرأة خلاني أشوف الناس مش كأرقام، بل كقصص، كوجوه، كحكايات بتحتاج رعاية واحترام وكرامة. ساعدني أكون أحنّ، بس كمان أقوى، لأنّي كنت أعرف معنى الهشاشة، وأعرف قديش محتاجة شخص يحميكِ بدل ما يحاسبك."






Comments

Popular posts from this blog

Leading with Purpose Amidst the Rubble: The Story of Serena Awad

Threaded in Survival: Yara’s Story Through Tatreez

Frame by Frame: Nour’s War on Erasure